بشكل عام تشير الكلمة العربية نظام إلى شيء ما يتواجد في المجتمع بشكل حقيقي أو افتراضي وبصورة موضوعية، مثل النظام السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي. وتترادف هذه الكلمة مع كلمة دين التي تعنى العقيدة. وانطلاقاً من هذا المفهوم، فإن الإسلام كنظام أو أسلوب حياة يصبح ثقافة اعتقادية عالمية تتركز نواتها حول مفهوم الهوية الموحدة.
فالإسلام يضم جميع المسلمين تحت لوائه، بغض النظر عن اختلاف أعراقهم وألوانهم وجنسياتهم وذلك من خلال الالتزام بالمبادئ الإسلامية في الوقت نفسه الذي يتخلل فيه النظام الإسلامي العام في جميع نواحي حياتهم. واعتماداً على تلك القابلية، يحدد الإسلام تصوره للرب والكون والحياة والبشرية جمعاء كنظام متكامل، وكذلك لجميع الأنظمة الثانوية التي تتفرع منها. وطبقا لهذا التصور، ينبغي للإنسان أن ينظم حياته وجهده ليحقق الرسالة السماوية الملقاة على عاتقه بتأسيس نظام اجتماعي أخلاقي تسوده العدالة والمساواة.
يتمثل اهتمام الإسلام بحياة الإنسان الدنيوية في أنه لا يضع فارقاً بين المجالات الدينية والمجالات الدنيوية؛ ففي الإسلام تنضوي جميع أوجه الحياة الإنسانية والاجتماعية تحت نطاق مجالين لا يمكن الفصل بينهما؛ وهما العبادات والمعاملات. يتناول الأول التزام المسلم بأداء مجموعة من العبادات والشعائر والفرائض الدينية، وبالتالي فإن العبادات تتناول العلاقة بين العبد المسلم وربه بشكل أكبر. أما المعاملات فهي تتضمن جميع أنواع التعاملات الإنسانية التي تقتضيها الحياة اليومية.
وعلى هذا النحو، فإن المعاملات تهتم أكثر بعلاقات الأفراد بغيرهم وسلوكياتهم تجاه الآخرين. بيد أن سلوك المرء المسلم في كلا المجالين ينبغي أن يكتسي بالروح الإسلامية؛ بمعني أنه يعبر عن خضوع العبد لله سبحانه وتعالي، وأن يتماشى مع التعاليم والمبادئ الإسلامية المستمدة من الكتاب والسنة والتفاسير المنهجية وما اتفق عليه علماء المسلمين.
1- يتعلق مجال العبادات بالعلاقة الروحانية الباطنة بين العبد وخالقه. وهو يشمل أداء جميع الواجبات الدينية المنصوص عليها في أركان الإسلام الخمسة. تلك العبادات وأداؤها والقوانين المنظمة لها توضع جميعها تحت مسمى واحد وهو الشعائر. ومن ثم، فإن مفهوم الشعائر يتناول المظاهر السلوكية للمرء المسلم، والتعبير عن إيمانه من خلال التعاليم الإسلامية. تجدر بنا الإشارة هنا إلى أن مجرد أداء الفرائض الدينية، لا يعد وحده كفيلا بضمان حسن علاقة العبد بربه؛ فتعاملات المرء مع غيره لها ذات الأهمية، والتي ينبغي أن تتماشي مع القيم والفضائل الإسلامية التي تحث عليها الواجبات والفرائض الدينية المكلف بها المرء المسلم. في ظل هذا المنظور الشامل، تعد جميع أشكال السلوك الإنساني بشكل أو بآخر شكلا من أشكال العبادة، أو على الأقل قابلة لأن تكون كذلك. وبينما قد تتباين أشكال العبادة تلك في تنميتها لمستوى تقوى المرء، فإن الثواب الحقيقي لالتزامه يأتي من الله سبحانه وتعالى في الدنيا والآخرة.
ولذا، فإن العبادات تعين المسلمين على الحفاظ على تواصلهم الروحاني، وتجديد إيمانهم، والسعي إلى تحقيق أهداف العدالة الاجتماعية والمساواة والحرية كجوهر للاعتقاد الإسلامي.
2- يتناول مجال المعاملات الإسلام كأسلوب أو نظام حياة، وبهذا المعنى فإن الإسلام يشكل مجوعة وافرة من النظم. تركز تلك النظم على سلوكيات المرء المسلم في التطبيق الفعلي للمبادئ والقواعد الإسلامية في جميع جوانب التعاملات والمعاملات الإنسانية. ومن ثم، فإن مجال المعاملات في الإسلام له جانبان رئيسيان: جانب سلوكي، وجانب تشريعي. يتعلق الأول بالأنماط الفعلية التي يتبعها المرء المسلم في تعاملاته السلوكية، أما الثاني فيتعلق بالشرع أو القوانين والضوابط التي تنظم تلك الأنماط السلوكية.
والغرض الأساسي في كلا الجانبين هو ضمان التطبيق الكامل للشريعة الإسلامية. يتميز الشرع بنطاق عريض وشامل، فهو يغطى كلا من العبادات والمعاملات ( أي الجوانب الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية ). ومن هذا المنطلق، فإن الشرع يعطي الشرعية أو الخلفية الأخلاقية للسلطة لتأسيسها وممارستها، وكذلك يعطي الشرعية للتكوينات والمنظمات الاجتماعية. إن الهدف الأساسي للقوانين الإسلامية هو مساعدة البشر في فهم البيئة المحيطة بهم، والقوانين المحركة لها، والتعامل معها بطريقة ملائمة. هذا النهج يجعل من اليسير بالنسبة للإنسان أن يمضى قدما بشكل متزن في الطريق إلى إنشاء مجتمع إنساني قائم على العدالة والمساواة والحرية والتعاون. علاوةً على ذلك، يحدد الشرع مجموعة من المفاهيم الرئيسة التي ترشد الإنسان إلى تحقيق هذا المسعى.
أ- الاستخلاف كأساس لوجود الإنسان على الأرض، وهدفها تحقيق خلافة الإنسان لله سبحانه وتعالى على الأرض. وانطلاقا من هذا المفهوم، تصير الرسالة الملقاة على عاتق الإنسان هي إيجاد نظام اجتماعي عادل. يصف القرآن الكريم هذه الرسالة بالأمانة.
ب- العلم أو المعرفة الإبداعية كوسيلة تعين الإنسان على تحقيق رسالته على الأرض. وفى هذا الصدد، يذكر القرآن الكريم أن آدم عليه السلام قد ُمنح العلم والمعرفة التي حرمت منها الملائكة. فقط بتلك المعرفة يستطيع الإنسان أن يقوم بالواجبات المنوطة به كمستخلف على الأرض، وأن يحقق دوره في إنشاء حضارة أخلاقية عادلة على الأرض.
يدل على ذلك أن أول آية نزلت من القرآن الكريم كانت دعوة للبشر لـ يقرئوا ، كوسيلة لاكتساب المعرفة والثقافة. فضلا عن ذلك، فإن القرآن دائما ما يؤكد على أهمية المعرفة كمعيار للمسئولية وقابلية الاختيار، وأهمية العلم والمعرفة كسبل لتحسين حياة الإنسان، وزيادة قدرته على التحكم في محيطه، وترسيخ وتقوية إيمانه بالله الخالق سبحانه وتعالى.
جـ - التسخير: يقصد بالتسخير أن الله سبحانه وتعالى قد جعل الكون كله في خدمة الإنسان. لذا، عندما يعرف الإنسان بوجود الله، وتتوافر لديه جميع أنواع المعرفة الأخرى بالكون والقوانين التي تحكمه، يصبح الإنسان قادراً على الإيفاء بمسئوليته كمستخلف على الأرض. فقد أمد الله عز وجل الإنسان بجميع الوسائل التي تجعل رسالته قابلة للتحقيق. حتى يستفيد الإنسان من هذا التسخير بأكبر قدر ممكن، عليه أن يكتشف القوانين التي وضعها الله للكون، والطريقة التي تسير بها الأمور.
هذه القوانين التي وضعها الله في الكون تعطي الحضارة البشرية الطاقة الروحانية اللازمة لتوازن تطورها وتقدمها المادي، وبهذا فهي تتيح للإنسان الحفاظ على العلاقة بينه وبين خالقه. لذا، فعلى الإنسان أن يستكشف أسرار الكون والحياة والعالم المحيط به. وبالتالي، كلما ازدادت معرفة الإنسان بالكون الذي يحيا فيه، اشتد إيمانه ورسخ يقينه بالله تعالى وازدادت قدرته على تحقيق الاستفادة من الكون والبيئة المحيطة.
د ـ الوسطية: يقصد بها التوازن أو الاعتدال، وهي المفهوم الإرشادي الرابع الذي ينبغي على الإنسان الالتزام به، حتى يتسنى له تحقيق هدفه في عمارة الأرض. يشير الاعتدال إلى ضرورة التزام الإنسان بتحقيق التوازن بين احتياجاته الدنيوية والروحانية، في سعيه لتحقيق مكانته كخليفة لله في الأرض.
تتجلى أهمية الوسطية في أنها تقود الإنسان إلى تكوين رؤية منفتحة ومعتدلة وشاملة وغير متحيزة، قادرة على تجاوز الرؤية أحادية البعد لترتقي إلى منهج أكثر تكاملاً وشمولاً ينأى بعيداً عن التحيز والأهواء الشخصية. بالإضافة إلى ذلك، فالوسطية لها مقتضياتها الخاصة بالأمة الإسلامية؛ حيث أنها تعطي للأمة تميزها كأمة ذات نظام اعتقادي معتدل، ومنهاج تفكيري متزن، تتمتع بالتنظيم والتنسيق وقوة العلاقات والالتزام.
ز ـ حرية الاختيار هي المفهوم الخامس الذي ينظم مساعي وجهود الإنسان لتحقيق مهمة استخلافه على الأرض. وفي هذا الصدد، يتعامل الإسلام مع الحرية باعتبارها حقاً مشروعاً لجميع البشر ولا يجوز المساس به. هذا الاتجاه تكرر التعبير عنه في القرآن الكريم، حيث يؤكد القرآن صراحة على حرية الاعتقاد، وحق المرء في اختيار دينه، وحقه في التعبير؛ حيث ينص القرآن الكريم على أنه:لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ البقرة: 256 ، بل إن القرآن الكريم يوسع نطاق تلك الحرية لأبعد مدى، فيبين أنه إذا ما تم نشر رسالة الله سبحانه وتعالى وأصبحت معروفة للجميع، فالباب مفتوح أمام أي شخص ليقرر ما يريد بصدد الدين الذي يعتنقه، فيقول:وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا الكهف: 29.
وكذلك فقد أكدت الأحاديث النبوية هذا المبدأ الإسلامي ذاته، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : الدين النصيحة ، وأيضا قوله صلى الله عليه وسلم : إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر، ويوجه المسلمين قائلاً :لا تكونوا إمعة. بل إن القرآن يؤكد أيضا على أن العبد المسلم في صراعه الداخلي مع الشيطان، يلقى العون من الله سبحانه وتعالى إذا سعى واجتهد في ذلك.
وهكذا، فإن جانبي العبادات والمعاملات في الإسلام يعبران، من بين أشياء أخرى، عن واقعية الإسلام ومرونته وتوجهه السمح. فمن جانب، لا ينكر الإسلام أبداً ضعف الطبيعة البشرية، وحاجة الإنسان إلى الموازنة بين احتياجاته المادية والروحية في الحياة. ومن جانب آخر، فإن تطبيق مبادئ الإسلام وفرائضه متروك لاختيار الإنسان وسعيه الخاص. أيضا، يؤكد الإسلام على أهمية السعي إلى الارتقاء بمستوى إيمان كل مسلم؛ فيؤكد على أن انتشار النظام الإسلامي في أي مجتمع إنساني يقتضي بالضرورة سعي أفراد ذلك المجتمع إلى زيادة إيمانهم من خلال الفهم الصحيح لمبادئ الإسلام. علاوةً على ذلك، يتمتع النظام الإسلامي بالمرونة التي تشجع أتباعه على التطور والتجديد؛ فهو يتيح القيام بعمليات إصلاح في النظام، مراعاة لظروف معينة يقتضيها المكان أو الزمان.
بمثل هذا المفهوم، أصبح من الممكن استيعاب كيف أنشأ الإسلام في بادئ أمره نظاماً قائما على مفاهيم غاية في التحضر مثل العدالة والمساواة، وكيف حقق تلك المفاهيم على أرض الواقع بشكل لم يحدث من قبل.
وختاماً، ينبغي أن نذكر أن الفارق بين جانب العقيدة (الجانب الإيماني)، وبين جانب المعاملات (الجانب المادي) هو فارق منطقي ومعقول؛ فجانب العقيدة يتعامل مع أمور غير ملموسة أو مرئية وبالتالي يتطلب إيماناً ويقيناً ثابتا لا يتزعزع بالله سبحانه وتعالى. أما جانب المعاملات فيتعلق بأمور بشرية وبالتالي فهو مرئي ووقتي وقابل للتغيير.
ولذا، يتبنى الإسلام خطوطاً إرشادية ومبادئ عامة في سعيه لتنظيم جانب المعاملات؛ حيث إن المعاملات تعتمد على قوانين السببية ومن ثم فهي قابلة للتغيير تبعا للزمان والمكان والأفراد. إلا أن هذا لا ينطبق على جانب العقيدة، لأنها تتعلق بالتعامل مع الله عز وجل. وانطلاقاً من هذا المفهوم، ينبغي أن نؤكد على أن الإسلام دين شامل؛ فعندما يعتنق المرء الإسلام، ويفهمه بشكل كامل وصحيح، فإنه يتغير إلى شخص آخر تماما.
المصدر: برنامج التبادل المعرفي